لقد جبل الإنسان على التطلع إلى معرفة المستقبل، ولازمت هذه الرغبة تاريخ البشرية، فلا يمكن أن يوجد شعب أو تجمع بشري في حقبة تاريخية وليس لهم اهتمام بالمستقبل[1]. وتختلف بالطبع، الحضارات فيما بينها، في طبيعة هذه المعرفة، إذ يمكن أن تكون مجرد تطلع فطري وممارسات طقوسية مرتبطة بالحاجات الموسمية للقبيلة أو التجمع؛ بينما هناك حضارات عرفت ممارسة تنبؤية “علمية” تستند إلى قراءة وملاحظة ورصد، ومن ذلك ما عرف عن حضارة المايا[2] من شغف بعلم الفلك وكذلك الحضارة المصرية والبابلية وغير ذلك من الحضارات.
ويمكن تصنيف دوافع التطلع إلى الغيب والتهافت لمعرفته، إلى دوافع شخصية ودوافع سياسية. أما الشخصية فتكمن في رغبة الناس في إدراك ما سيكون عليهم مستقبلهم الشخصي، من زواج وتجارة وأبناء وغير ذلك؛ أما الدوافع السياسية[3]، فهي نزوح الملوك والحكام وقادة القبائل والتجمعات البشرية، لمعرفة الفرص الممكنة في المستقبل والمخاطر التي تهدد كيانهم والعدو الذي يتربص بهم ومدى نجاح أو فشل خططهم الحربية أو سياستهم للناس. وكلا الدوافع لازالت قائمة في الوقت المعاصر[4]، بالرغم من ادعاء العقلانية والتلويح بشعارات الخرافة والتخلف والشعوذة وغير ذلك – ذلك أن الممارسة اليومية، تبين الحاجة الملحة لمعرفة المستقبل بجميع الطرق الممكنة، وكلما اشتدت الأزمات العاطفية والشخصية أو السياسية، تتمظهر الرغبة الجامحة لاستباق مجريات الأمور.
ويبدو أن تاريخ البشرية القديم عرف نمطين من قراءة المستقبل، أحدهما مارسه الكهان باعتبارهم أوصياء على المعبد وآخر مارسه العرّاف والذي جمع بين وظيفة قراءة المستقبل والتطبيب. وهذا التصنيف ليس دقيق بالتمام إذ يمكن أن يجمع الكاهن بين وظيفة الكهانة والعرافة، كما يمكن أن يتحول العرّاف إلى كاهن، إذا تغيرت الظروف السياسية. كما تصنف ممارسة قارئي المستقبل ضمن خانة السحر، فإن كان أسودا فإنه يعاقب وإن كان أبيضا يسمح به وكما يقول “الياد مرسيا” إن السحر الأسود كان ممنوعا بموجب قانون الشرائع وكان المجرمون يعاقبون بالإعدام. وإنه لمن المؤكد أن بعض الممارسات الموغلة في القدم، كانت بصورة غير مباشرة تمتع بشهرة خارقة في الأوساط الشعبية، وعلى العكس، فإن السحر الأبيض كان مباحا ويمارس كثيرا كما يدل على ذلك العديد من النصوص المكتشفة حديثا، وهذا السحر كان يتضمن على الأخص شعائر تطهير وإبعاد المرض”[5]. ولاشك أن وظيفة التطهير والتمريض، تشمل الحاضر والمستقبل.
وقراءة المستقبل لدى الكاهن أو العرّاف، مرتبطة بمصدرين أو طريقتين، إما الاتصال أو الإلهام أو قراءة الرموز؛ فالطريقة الأولى “فطرية أو هبة” والثانية تحليل واستقراء[6].
والمقصود بالاتصال عند الكهنة، هو ذلك التلقي عن الشياطين والجن، التي تحمل إليهم الأخبار المستقاة من السماء، وفيها ما هو صحيح وما هو كاذب. ومن المعلوم أن ذلك قد حاربته الديانات السماوية التوحيدية وقد قال الله سبحانه: ﴿وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم﴾ أما الطريقة الثانية والتي تعتمد على الاستقراء والاستنباط، فكانت تعتمد وساءل متعددة ومن ذلك التنجيم والفراسة والقيافة والعيافة والطَّرْقْ والخط والتطيّر والفأل وضرب القِدَاحْ [7]وغير ذلك.
والملاحظ أن الحضارات القديمة مارست هذه الطرق واعتمدتها كوسائل لاستشراف المستقبل، وكذلك معرفة ما خفي من الماضي والحاضر. ويشير أحد الباحثين إلى وجود قابلية لدى عديد من شعوب الحضارات القديمة لممارسة وفهم وإدراك المغيبات، وهاته الحضارات القديمة محصورة في مجتمع دون آخر، بل كانت كل المجتمعات تتوفر على كهانها وعرافيها وممارسي التنبؤ بالمستقبل[8].
والمؤرخين المهتمين بالتنبؤ في المجتمعات القديمة، يعتمدون على النصوص والحفريات المتوفرة لديهم، ومن أقدمها ما بقي من العهد البابلي؛ حيث أبرزت بعض تقنيات استشراف المستقبل ومن ذلك قراءة أحشاء القرابين المقدمة في المعبد، لمعرفة المستقبل (Extispicine) وكذلك قراءة مواقع النجوم “ومن الشواهد التاريخية عن التنجيم عند العراقيين القدماء ما جاء في (لوح فينوس) الذي يعود تاريخه إلى العصر البابلي القديم، عثر عليه في مكتبة آشور بانيپال، كتب بأسلوب منتظم ضمن الفؤول المأخوذة من حركة فينوس. وانتقل علم التنجيم من وادي الرافدين إلى سائر البلدان، ففي مصر القديمة ذكر أن فرعون كان يقتل أبناء بني اسرائيل لأخبار المنجمين إياه بأنه سيولد لهم مولد سيكون هلاكه على يده. فضلا عن العراقيين والمصريين القدماء فقد عرف التنجيم اليونان والرومان والهند والفرس”[9].
واستعمل التنجيم لمعرفة الوقت المناسب للسفر والغزو والزواج والانجاب والتحالف وقضاء جميع الأغراض الشخصية أو العامة. والتنجيم كما هو معلوم، يتأسس على معتقد فاسد، مؤداه أن مواقع النجوم وحركيتها لها تأثير على المصير الإنساني، بل مصير الكرة الأرضية، حيث ذهب كهان ومنجمي حضارة المايا إلى التنبؤ بنهاية العالم سنة 2012[10] بناءا على تقويم معتمد لديهم وحسابات فلكية؛ ولا يخفى على كل لبيب ما لذلك من تداعيات على مجريات الأمور، وإفساد لعقول الناس وتوهيمهم بمعرفة توقيت نهاية الدنيا، الشيء الذي اختص به الحق سبحانه.
والتنجيم[11] عمل به في جل الحضارات، حيث “برع الاشوريون عن طريق ملاحظة الكواكب والأجرام السماوية وأخذ الكلدانيون هذا العلم عنهم وواصلوا قراءة صفحات السماء وأقاموا على ذلك علما يمكنهم من التنبؤ بحظوظ الناس ومعرفة مصايرهم وكان للقدماء المصريين نصيب، أما الاغريق فقد كانوا لا يقدمون على أمر من الأمور إلا بعد استشارة والتماس النصح من “الآلهة” والكهنة المدعمين لمعرفة الغيب وكان علم الكهانة شائعا في الجاهلية عند العرب وكان من الكهان شق بن أنمار وسطيح بن مازن وطريفة الكاهنة وزبراء وغيرهم”[12].
ولقد مارس الكهان في جميع الحضارات، كل الطرق والوسائل المعتمدة في استقراء وادعاء معرفة المستقبل؛ فيما تبرم الفلاسفة من طرق الكهان، مثل العيافة ومراقبة الطيور، حيث أشار إلى ذلك شيشرون[13] نقلا عن أرسطو.
ويمكن القول بأن التكهن بالمستقبل والتنبؤ به، تباين بتباين الممارسين، فالمنجمين حاولوا الاستناد إلى قراءات حسابية، كما طور البعض علم الأرقام والحروف وغير ذلك من الوسائل الرياضية[14]، بينما التجأ البعض إلى طرق حدسية مثل قراءة حركة الطير وحركة دخان القرابين وغير ذلك. ولجأ البعض إلى التوسم أو علم الفراسة، وإن كان لذلك شق نوراني، حيث يؤتى المسلم فراسة ثاقبة، كما هناك شق غير رباني. وهناك جانب من الفراسة، يهتم ليس بالمستقبل، وإنما فهم وإدراك طبائع الناس وأخلاقهم من خلال التوسم في وجوههم وأعضاء جسمهم.
ويقول جورجي زيدان: “أما العرب فقد كانوا في الجاهلية يعتقدون أشياء تعد من قبيل الفراسة كالقيافة والريافة والعيافة. وكانت القيافة عندهم صناعة يستدل بها على معرفة أحوال الإنسان يسمونها قيافة البشر لأن صاحبها ينظر إلى بشرات الناس وجلودهم وما يتبع ذلك من هيئات الأعضاء وخصوصا الأقدم ويستدل بتلك الأحوال على الإنسان والريافة عبارة عن تعريف الرائف للماء المستجن في الأرض أقريب هو أم بعيد يشم رائحة ترابها ورؤية نباتها وحيوانها ومراقبة حركاتها. والعيافة تتبع أثار الأقدام والأخفاف والحوافر في الطرق التي تتشكل بشكل القدم التي تقع عليها. ومن ذلك علم “الاختلاج” وهو الاستدلال على ما سيقع للإنسان من النظر إلى اختلاج أعضائه من الرأس إلى القدم”[15].
إن الممارسات التنبؤية وإرهاصاتها في الحضارات القديمة اختلطت بمعتقدات متعددة ومتباينة[16]، وكان الهاجس الأساس، هو اتقاء تقلبات الزمن والاستعداد لمواجهة مخاطر الطبيعة ومخاطر البشر المتربص، ولذلك كان الكهان والعرافة في خدمة الخاصة[17] والعامة. ويلاحظ كذلك أن التنبؤ بطرقه المتعددة، ساهم في إرساء معالم ومضامين “علمية”، فالتنجيم حين تم فصله عن الاعتقادات الخاطئة، تطور إلى اهتمام علمي بالفلك ومعرفته بالنجوم والكسوف والخسوف، لأغراض معرفية محضة ولوظائف أساسية، من زرع وري وتقدير للأوقات.
إن الممارسات التكهنية لازالت في وقتنا الحاضر مستمرة إما في شكل تقليدي، كما هو الحال في بعض المجتمعات الافريقية[18] والآسيوية، التي لازالت محافظة على تقاليدها “التكهنية” أو عن طريق الممارسة الحديثة التي تتستر وراء “العلمية”، لذلك يعتبر أحد الباحثين[19] أن الممارسة الاستشرافية المعاصرة من طرف الحكومات المتقدمة، هي استمرار لتقاليد قديمة بلغة جديدة.
د. خالد ميار الإدريسي
الهوامش:
[1] جل الدراسات المهتمة بتاريخ الحضارات تضمنت إشارات إلى اهتمام الشعوب القديمة بالتنبؤ والتكهن واستكشاف المستقبل لذلك كتب الكثير عن ¨Divination¨.
انظر ما يلي:
[2] كتب الشيء الكثير عن حضارة المايا انظر:
[4] هناك مجموعة من المقالات والدراسات والإحصائيات حول لجوء العامة والخاصة في البلدان الغربية إلى العرافين والاستعانة بهم لمعرفة المستقبل كما هناك اهتمام يومي بقراءة الأبراج. وقد اصدرت العرافة الفرنسية اليزابيث تيسيه كتابا تحدثت فيه عن علاقتها بالرئيس الفرنسي فرونسوا ميتران، وأنها كانت مستشارته الروحية، كما كان لبوريس يلتسين الرئيس الروسي السابق، بدوره عرافة اسمها “دجونا” كما هناك حوالي 30 ألف محترف لمهنة التنجيم في فرنسا وينفق في فرنسا حوالي 3 مليارات أورو على التنجيم.
انظر التنجيم في فرنسا على الرابط:
انظر نفس الموضوع على رابط الجزيرة:
كما تحدث أنيس منصور في مذكراته عن العرافة الاسرائيلية مريام وادعائها لمعرفة مستقبل بعض الشخصيات السياسية ومن ضمنهم مبارك…
انظر كذلك:
[5] الياد مرسيا: تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، ترجمة عبد الهادي عباس، الجزء الأول، دار دمشق، الطبعة الأولى 1987، ص:181.
[6] Bloch, Raymond : La divination op.cit pp 35 – 64.
[7] المصطلحات الفرنسية المقابلة لبعض طرق التنبؤ:
(قراءة أحشاء الحيوانات) – Extispicine (observation des viscères)
(قراءة تحليق الطير) – Ornithomancie
(الفأل) – Clédonomancie
(الرؤيا) – Oniromancie
(نوع من الرؤيا يتم الاستعداد لها عبر طقوس معينة ومواد مخدرة كما هو الحال
عند شعوب الهنود الحمر) – Incubation
(قراءة التموجات التي يحدثها رمي شيء ما في الماء – Hydromancie
(ضرب القداح) – Cléromancie
(التنجيم) – Astrologie
[8] Silo : Le message, Edition Références, Paris, 2010 p 51.
[9] سعد عبود سمار: إدراك الغيب عند العرب قبل الإسلام، مجلة واسط للعلوم الإنسانية، عدد: 11، 2012، ص: 244.
[11] الساعدي رحيم: المستقبل في الفكر اليوناني والإسلامي، الجزء الأول، دار الفراهيدي، الطبعة الأولى، 2011، ص: 43.
[12] – le quèvre Fréderic : Astrologie, science ou imposture ? L’Horizon chimérique, 1991.
– Pecker Jean claude : L’astrologie et le science, Revue La Recherche n° 140, Janvier, 1985.
[13]-Ciceron: De Divinatione ,Flammarion, Paris, 2004.
هناك دراسات حول تطور “علم الأرقام التوقعي” Numérologie الذي يستند إلى الحساب والرياضيات والذي له جذور تاريخية.
هناك دور كبير لنحلة القبالة اليهودية في تطوير ¨Numérologie¨.
[15] زيدان جورجي: علم الفراسة الحديث، كلمات، القاهرة، 2011، ص: 8 – 9.
Source : http://www.massarate.ma
Leighton منذ سنة
Kenji RayKarter منذ سنة
Angie PrattEmelia منذ سنة
Isaiah RushAmoura منذ 11 شهر
Khaza WashingtonRebekah منذ 11 شهر
Natasha BellOmari منذ 11 شهر
Jon SaundersGiuliana منذ 11 شهر
Kason LealLivia منذ 11 شهر
Elio ZavalaTheodora منذ 11 شهر
Louisa WallerHank منذ 11 شهر
Michael KelleyRandy منذ 11 شهر
Dexter HenryFranco منذ 11 شهر
Fiona MejiaKarter منذ 10 أشهر
Eloise FreemanKamila منذ 10 أشهر
Madilyn MillerAmiri منذ 10 أشهر
Melvin KimLennon منذ 9 أشهر
Sarahi NavarroAugustine منذ 9 أشهر
Jasmine KaneAriyah منذ 9 أشهر
Collin DunnKairo منذ 9 أشهر
Everlee ValenciaEmilia منذ 9 أشهر
Dior Ellisonnetti منذ 9 أشهر
netti cigarroaguenna منذ 8 أشهر
guenna epstein vittarseppe منذ 8 أشهر
seppe casemanShepard منذ 8 أشهر
Alvaro Kim